كثرت مؤخرا الإنسحابات التكتيكية للجيوش الإفريقية من ميادين القتال حاصدة الهزيمة تلو الأخرى من جماعات متمردة عادة ما تكون ضعيفة العتاد والعدة، في مالي والكونغو الديمقراطية وجمهورية وسط أفريقيا سرعان ما تداعت الخطوط الدفاعية للقوات النظامية عند الضربات الأولى للمتمردين والأدهى من ذلك أن هذه الجيوش نفذت سلسلة من الإنسحابات التكتيكية حتى وصلت الى أسوارالعواصم المركزية لدولها لتقف هنالك مرابطة تتفرج على المتمردين الذين يدخلون المدينة تلو الأخرى بدون أية مقاومة، لسان حال هذه الجيوش يقول لمن يطلب منها التصدي للتمرد: اذهب أنت وربك فقاتلا ....
في الكونغو لم تستطع القوات المسلحة تحرير أحياء من العاصمة برازافيل سيطرت عليها ميليشيات "كوبرا" خلال معارك ضارية دامت خمسة أشهر عام 1997 قبل أن تسقط العاصمة كلها في قبضتها، في أوغندا تتلاعب وحدات مرتزقة من مقاتلي جيش الرب بالقوات النظامية منذ عدة سنوات وتكبدها خسائر كبيرة، في ساحل العاج انهار الجيش النظامي بين عشية وضحاها وسيطر المتمردون على أكثر من نصف البلاد ولم تستطع قوات لوران اغباغبو حمايته من أول هجوم نحو القصر ينفذه المتمردون بعد فوز الحسن وتارا في الانتخابات، وفي مالي لم يصمد الجيش النظامي ثلاثة أشهر في قتال متمردي أزواد وحلفائهم الذين سيطروا على ثلثي البلاد، وفي وسط افريقيا يرابط المتمردون اليوم على ابواب العاصمة بعد سيطرتهم على 90 في المئة من البلاد، وفي الكونغو الديمقراطية دخل المتمردون مدينة غوما كبرى مدن البلاد خلال أيام، في كل مرة كانت تعزف هذه القوات اسطوانة الإنسحاب التكتيكي والاستراتيجي المعهودة تاركة خلفها الأسلحة والمعدات التي كانت تمتلكها.
لقد ورثت أغلب البلدان الأفريقية بنى تحتية لمؤسسات عسكرية عصرية والعديد من الكوادر البشرية المؤهلة والمدربة جيدا من قبل الدول المستعمِرة مما شكل نواة لجيوش عصرية قادرة على الحفاظ على أمن البلاد والذود عن حماها، في أعياد الإستقلال تقام العروض العسكرية الضخمة والتي تشارك فيها أنواع الوحدات العسكرية مدججة بما لا يعلم عدده الا الله من آخر ما جادت به المصانع الغربية من أسلحة، في كل سنة تذهب حصة معتبرة من ميزانيات الدول الإفريقية إلى الدفاع بل أن هذه الدول يبلغ انفاقها العسكري ضعف مخصصات الصحة والتعليم في بعض الأحيان، وحين تدعى هذه الجيوش للقتال سرعان ما نكتشف ضعف التدريب وخراب العتاد وانهيار الروح المعنوية للجنود وعجز القيادات، ذلك هو الوجه الحقيقي للجيوش الإفريقية الذي لا نكتشفه الا بعد فوات الأوان فماهي الأسباب الكامنة وراء ذلك؟
بعد الإستقلال تحول قادة الجيوش الإفريقية الى رؤساء دول وسخروا كل قوتهم للإنقضاض على السلطة وتنفيذ الإنقلابات الشيئ الذي سيبدأ لا حقا في تفريغ هذه الجيوش من معناها الحقيقي وتحويلها الى مؤسسات لضمان بقاء هذا النظام او ذاك وهو ما ينتج عنه دون شك اقحام الجيش في السياسة وتحويل الإستخبارات العسكرية من حماية البلاد الى التجسس على المعارضين السياسيين وابرام الصفقات بين هذا المرشح وذاك، واحداث الإنشقاق في هذا الحزب او تلك الجماعة، وفي خضم الحملات الإنتخابية يشرف قادة الجيش والضباط السامون فيه على ترشيحات الحزب الحاكم وعلى حملاته الانتخابية، غالبا ما تكون الفائدة كبيرة في تسييس الجيش، فذلك يضمن للضباط تقاعدا مريحا ونصيبا من كعكة الدولة مرضيا ويضمن للرئيس عدم تفكير الجيش وقادته في العودة لحمل السلاح وبالتالي ابتعادهم عن التفكير في القيام بأي انقلاب.
لقد تحول الضباط السامون في الدول الإفريقية الى رجال أعمال كبار تقدر ثروتهم بالمليارات حصلوا عليها من نهبهم الممنهج لأموال الشعوب، فالدولة عادة يتم تقاسمها بصفة مرضية بين الجنرالات والرئيس، لديهم حصتهم من التعيينات كالوزراء والسفراء والموظفون السامون والنواب في البرلمان وحتى في هياكل الحزب الحاكم، يشتغل كل واحد منهم في مجال لا ينافسه فيه أحد، هذا جنرال الأرز والمواد الغذائية، وآخر للمحروقات، وثالث للعقار، ورابع لتهريب العملة الصعبة، باختصار هي شبكة تتحكم في ريع كل شيئ في البلدان الإفريقية.
يعيش الضباط السامون من الجنرالات عادة تلك الحياة المترفة، لكن للأسف حال الجنود والضباط من صغار الرتب وضباط الصف غير ذلك، فهم يعيشون معيشة ضنكا وأغلبهم يبحث عن وسيلة أخرى للزيادة من دخله وتحسين ظروفه، خاصة أنهم يشعرون بالظلم الشديد والحيف حين يتعلق الأمر بالترقيات في الرتب التي لا تخضع عادة لمعايير مهنية واضحة وانما لنزوات القادة وفريقهم، أغلب الجيوش المهزومة صرح جنودها لوسائل الإعلام بشعورهم بالإهانة وتخلي الدولة عنهم وتركهم للمجهول ليواجهوا مصيرهم بأنفسهم، نفس القصة كررها الجنود الماليون والكونغوليون والوسط افريقيون حين نفذوا سلسلة من الإنسحابات التكتيكية خلال العام المنصرم.
ولكي تتم الحيلولة دون تمرد القوات المهمشة في هذه البلدان يقوم النظام عادة بتقوية المؤسسات شبه العسكرية كالدرك والشرطة والحرس الوطني التي تقوم بدور حفظ النظام وتستخدم لقمع المعارضين والتنكيل بهم، في بعض البلدان تعادل ميزانية هذه القوات ميزانية الجيش الذي يفوق أعدادها مجتمعة بأضعاف، وحتى يتم التصدي عسكريا لكل تمرد محتمل من القوات المهمشة تنشئ هذه الأنظمة جهاز الحرس الرئاسي والذي يتبع عادة لرئيس الجمهورية ويتم تسليحه جيدا وتدريبه كوحدات من القوات الخاصة وفي العادة تبلغ قوته النارية ضعف ما لدى مؤسسة الجيش، إنه الإبن المدلل كما يقول بعض العسكريين.
لم يتم النص على دور الجيش في دساتير أغلب الدول الإفريقية التي تعيش تجربة ديمقراطية كما أنه لم يتم اخضاع مؤسسات الجيش للرقابة المالية والتفتيش عن الأموال الطائلة التي يتم صرفها سنويا، كما أن المفتشيات العسكرية تبقى بدون أي عمل فعلي ولا يتم اتخاذ أية اجراءات عقابية في حق الضباط السامين الذين يسيئون التصرف، كل هذه الأمور ينتج عنها بصفة حتمية ضعف التخطيط العملياتي وسوء انتشار القوات المسلحة في الغالب.
يذكر التاريخ أن القوات المدللة لم تصمد أيضا في المعارك ولم تحم رؤساء اعتمدوا عليها، في عامي 96 و 97 من القرن الماضي لم تصمد طويلا القوات المسلحة الزاييرية التي كان يتبجح بها موبوتو أمام ضربات متمردين بسطاء وجدوا الطريق معبدا أمامهم لدخول قصر موبوتو، وفي وسط افريقيا تقدمت مجموعات متمردة صغيرة مشكلة في غالبها من قطاع الطرق الى العاصمة ودحرت الحرس الرئاسي خلال ساعات فقط، أما في موريتانيا انهار الحرس الرئاسي عام 2003 عند ظهور أول دبابة.
بكل بساطة لا يقاتل الجنود حين يشعرون أن المعركة ليست معركتهم، فبأي حق يلقون أنفسهم الى التهلكة من أجل حماية قادة فاسدين متسلطين ؟ ذلك هو حال الجيوش الإفريقية الذين يكثرون عند الطمع ويقلون عند الفزع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق